تُترجم الصدقة الجارية حرفياً من لغتها العربية الأصلية على أنها"متدفقة" أو "جارية" الأمر الذي يعني أن الصدقة هي التي يقدمها المرء في الحياة ويستمر الانتفاع بها واستفادة الآخرون منها إلى يوم الحساب، و بالتالي هي الصدقة التي يبقى أجرها مستمراً حتى بعد وفاة المتبرع بها.
عادةً، يطلق عليها اسم "عمل خيري مستمر" أو " دائم" أو "جاري (كما النهر)". كما أن عبارة "عمل خيري دائم التدفق" تحمل في مضمونها القدرة الخاصة في هذا النوع من الأعمال الخيرية على التواصل بين المتبرع والمستفيد حتى ما بعد وفاة المتبرع.
الجواب التفصيلي
من الناحية العملية, تصنف صدقة جارية تحت ما يسمى"الوقف" أو "الهبة" وذلك حسب الشريعة الاسلامية. المعنى الحرفي لكلمة "الوقف" باللغة العربية هو "مجمّد" بمعنى "الوقوف ساكناً" أو "الثبات"، هذا المعنى يصف الموقف القانوني لأصل معنى الهبة الخيرية وفي نفس الوقت يعكس شروط المنفعة منها. أي أن ثمار الهبة الاصلية تساعد المؤهلين للاستفادة منها للأبد وثواب أجرها المتراكم للمتصدق بها في حياته وآخرته، وربما حتى نهاية الوقت.
ما هو اصل مفهوم الوقف الخيري وعلاقته بصدقة جارية؟
يستشهد العلماء بحديث متبادل موثوق بين الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، كمرجعية أولية لمعنى الوقف والصدقة الجارية "عمل خيري دائم التدفق".
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَأْمِرَهُ فِيهَا، فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ؛ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، ولَا يُورَثُ، ولَا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وفِي الْقُرْبَى، وفِي الرِّقَابِ، وفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ ولِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، ويُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بخاري ومسلم)."
هل قال النبي صلى الله عليه وسلم تحديداً أن الصدقة الجارية تفيدنا بعد موتنا؟
نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم::
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" (رواه مسلم) .
و قال أيضا:
" إنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ : عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِه" ( عن ابن ماجه)
؟ماهو الفرق بين الصدقة كعمل خيري والصدقة الجارية دائمة التدفق
الصدقة تعني أنها ليست مستمرة، تُمنح لآخر لتصبح ملكًا لذلك الشخص ليتصرف بها كما يراه مناسبًا له. على سبيل المثال: المال والمأكل والملابس والأدوية والأواني... إلخ. الصدقة الجارية تلغي الملكية الاصلية وتصبح وقف، أي تصبح ملك الله تعالى والتصديق بمنافعها وعائداتها باستمرار أو بشكل متكرر على الأشخاص المستفيدين حسب رغبة المانح الأصلي. كما لا يمكن الغاءها كصدقة جارية في أي حال من الاحوال.
ماذا يحدث في حال اختفى العَقار الأصلي "الوقف" المخصص للصدقة الجارية؟
تبقى الصدقة الجارية مستمرة ما دام وقفها قائما، لذا فإن مستشفى تم تأسيسه كمؤسسة خيرية مستمرة يقدم منافع للمتبرع نتيجة لاستخدامه طالما أنه موجود، مثال ذلك توفير سرير أو منزل أو مأوى لأرملة أو يتيم أو لاجئ أو نازح حيث يستمر المانح(المتبرع) في الحصول على الأجر والثواب ما دام المنتفعون (المستخدمون) مستمرون في الاستفادة من منافعه.
في حال أصبحت حالة المستشفى آلية للسقوط أو أصبحت بلا جدوى أو تعطلت الأجهزة التي تبرع بها شخص ، يمكن بيع بقايا المشفى أو الجهاز ومن ثم اعادة استخدام تلك العائدات لتأسيس أو استبدال الغرض الخيري في منشأة أو جهاز آخر، أي طالما تستمر الاستفادة والمنفعة من تلك البقايا بطريقة او باخرى يستمر المتبرع في الحصول على الأجر والثواب.
ما هي أنواع الأعمال الخيرية التي تعتبر صدقة جارية؟
النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أمثلة على ذلك
“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ". (أخرجه ابن ماجه)
القاسم المشترك بين هذه الأعمال الخيرية هو أن شخصًا ما يجعلها عن قصد خير في سبيل الله ، إما من خلال العمل الصالح. لهذا السبب، يعتبر الله جهود الآخرين بمثابة أرباح لهم. بالتالي من ينفق ويربي الولد على الصلاح، فإن الولد بدوره يصنع الخير نيابة عن والديه. مثل الحج على من أو التصدق على الأب أو الأم أو الدعاء لهما. أيضا إذا كتب أحدهم كتابًا عن المعرفة الدينية يتعلم منه الآخر، فإن التعلم يفيد جامع الكتاب. أو إذا قدم المرء نسخًا من القرآن (المصحف) لمسجد أو مؤسسة عامة تخدم الناس فإن قراءتهم تفيد من زودهم بها. أو إذا بنى المرء مكانًا يمكن للآخرين أن يتعبدوا فيه أو مأوى مجانيًا للمشردين أو لأرملة أو يتيم أو مستشفى أو عيادة يتلقى فيها المرضى المساعدة الطبية فإن بناة هذه الأماكن وصانعي هذه الصدقات يتلقون مكافآت الهية.
هل حجم الصدقة الجارية أو مقدارها مهم؟
لا، فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد بالتحديد حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجداً لله كَمَفْحَصِ قَطاةٍ أو أصْغَر بنى الله له بيتاً في الجَنَّة". (عن إبن ماجه)
هذا يعني أنه بغض النظر عن كمية الأعمال الخيرية، فإنها ستعود على المتبرع بالثواب والأجر طالما استمر استخدامها.
هل الصدقة الجارية تعطي أجرًا خاصًا للمتبرع في الآخرة؟
الصدقة الجارية تزيد أجرنا في الآخرة لما تقدمه من نفع دائم أو مستمر على المحتاجين في هذه الحياة. وهذا مهم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يوم القيامة يوم تُدْنَى فيه الشَّمْسُ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَهم" (الامام أحمد.)
فعل الخير في الحياة مهم روحياً وايضاً لآخرتنا. والصدقة الجارية الواحدة يمكن استثمارها لتبقى وتضاعف الأجر والثواب في الآخرة وتثقل ميزان حسناتنا.